تاريخ ومعلومات عامة

مقدّمة

مزارُ سيّدةِ لبنان، هناك حيث تعانقُ السماءُ الأرضَ، وتضعُها بين أحضانِ مريمَ والدةِ الإله، هناك أشرقت أمُّنا مريم بنورِها على القلوبِ المظلمة، فحوّلت تلك البقعةَ الصغيرة ،حريصا، ملاذاً للتائبين، وعزاءً للمحزونين، وقبلةً لكلِّ ضالّ، ودليلَ هداية، وواحةَ صلاةٍ ترتاحُ فيها نفوسُ المتعبين.
إنّه صرحُ قداسةٍ يُجدِّدُ الضمائر؛ صوتُ صامتٍ يخرقُ أُذني النفس، ليستكينَ في روحِ الروح.
 

وصف حريصا

حريصا كلمةٌ فينيقيةٌ وعبريةٌ أيضاً،  من جذرِ ''حرص''. أي الطرفُ الحاد أو الآلةُ الحادةُ القاطعة، كالسكين وسواها؛ وهكذا يكونُ معناها ظهرٌ حادٌ أو متنٌ حاد، وهذا وصفٌ لطبيعةِ االتلّةِ الواقعةِ عليها البلدةُ التي تدعى عند أبنائِها ب ''الرويس''. في حين أنّ بعض المؤرِّخين يؤكدون أن كلمةَ حريصا في اللغاتِ الساميةِ القديمة تعني الرويس في العربية، أي التلةُ المرتفعةُ المسننة.
تقعُ حريصا في محافظةِ جبلِ لبنان، وتتبعُ قضاءَ كسروان في منطقةِ جونيه الساحلية، على مقربةٍ من بكركي مقرِ البطريرك الماروني. ترتبطُ حدودُها عقارياً وبلدياً ببلدةِ درعون. تبلغُ مساحتُها ثلاثةً وخمسين هكتاراً، وترتفعُ عن سطحِ البحر ستَمايةٍ وخمسين متراً. تبعد عن العاصمة بيروت ستةً وعشرين كيلو متراً. تطلُّ مباشرةٍ على خليج جوني. تمتازُ بخضرتِها وكثرةِ أشجارِها ووفرةِ وصفاءِ ينابيعِها، إنّها كبوابةٍ لدخولِ الفردوس.
 

فكرة الإنشاء

في اليوبيل الخمسيني ل "عيد الحبل بلا دنس". العقيدة التي أعلنَها قداسةُ البابا بيوس التاسع عام ألفٍ ووثمانِ ماية وأربعةٍ وخمسين. قرّرَ غبطةُ البطريرك الماروني الياس الحويّك والقاصدُ الرسولي المطران كارلوس دوفال- تخليداً لهذه المناسبة- إنشاءَ أثرٍ ديني.
فجاءت فكرةُ بناءِ تمثالٍ للعذراء- بحسبِ الأب هنري جلابير (Jalabert) اليسوعي- من قِبَلِ الأب لوسيان كاتّان (Cattin) رئيسِ اليسوعيّين في الشرقِ آنذاك، تمثالٍ كبيرٍ يمكنُ مشاهدتُه من مسافةٍ بعيدة، كي يبقى شاهداً على تعبّدِ اللبنانيّين لمريمَ وتعلّقِهم بها.
وبعد استشارةٍ قامَ بها البطريرك والقاصدُ الرسولي، لبعضِ الأساقفةِ والكهنةِ والرهبانِ والعلمانيّين، تقرّرَ إطلاقُ لقبِ "سيّدةِ لبنان" على المزارِ المزمعِ أنشاؤه.
 

الإنشاء

بعد بحثٍ وتفكيرٍ وأخذِ رأي جهابذةِ المهندسين، أُختيرَ موقعٌ يدعى "الصخرة" يقعُ على قمّةِ تلّةِ حريصا، ليكونَ مكان تشييدِ المزار. فعُقدت اجتماعاتٍ لتنظيمِ العمل، وبدأت لجانٌ بجمعِ المالِ لإتمامِ المشروع، فظهرت محبّةُ اللبنانيّين لمريم، وذلك بكرمِ تبرعاتِهم السخيّة.
وإثرَ مدٍّ وجزرٍ قَبِلَ مالكُ الأرضِ السيّدُ فرنسيس يعقوب يونس بيعِها للبطريريكيّة بمبلغٍ قَدَرُه خمسين ليرةً عثمانيّة.
وضُع حجرُ الأساس في تشرين الأوّل من عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وأربعة، فبدأ العملُ بإنجازِ إنشاءاتٍ  أوّليةٍ ضرورية، لكنّه توقّف، لعدّةِ أسبابٍ وعوائق، أهمُّها تخوّف من عدم تحمّلِ الأرض لبناءٍ عالٍ كالمقرّر إنجازُه.
في عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعةٍ، صمّمَ البطريركُ الحويّك والقاصدُ الرسولي الجديد المونسنيور  فريديانو جيانيني (Giannini)، على معاودةِ العملِ بقوّةٍ وسرعة، مع تعديلٍ في المشروع، رغبةً في توسيعِ ساحةِ المزارِ الغربيّة.
ولإتمامِ العمل بحسبِ الأصول، أبرمَ البطريرك عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وستةٍ صكَّ المقاولة، كطرفٍ أوّلٍ مع المعلّمِ القديرِ إبراهيم مخلوف (من عين الريحانة) كطرفِ ثانِ، يُكلَّفُ بموجبِه الأخيرث بتنفيذِ المشروع؛ وبناءً عليه تمّ بناءُ المعبد وقاعدة التمثال عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعةٍ.
وجديرُ بالذكر، أنّ الأبَ شكر الله خوري رئيسَ المرسلين اللبنانيّين الموارنة، كان منذ البدايةِ يدُ البطريرك اليمنى، بإدارةِ المشروع وتنفيذِه، وقد خَلَفَه في مهامهِ وفي ورئاسةِ المرسلين، بعد انتخابِه مطرانناً على أبرشية صيدا، الأب ُيوسف مبارك.
استطاع البطريرك –بمساعدة- القاصدةِ الرسولية، بخاصّة الأب بيره (Pere) أمينِ سرِّ القاصدةِ الرسوليّة، والأبِ كاتّان رئيسِ اليسوعيّين، تجاوزَ الأزمةِ المالية- نظراً إلى ضخامةِ المشروع وكلفتِه العالية-، وذلك من خلال توجيهِه رسالةٍ إلى الأوقافِ المارونيةِ والمعاهدِ الخيرية، يأمرُهم فيها بدفعِ ما يُفرضُ عليهم من مبالغَ مبيّنةٍ على لائحةٍ وضعَها هو نفسُه. وقد قامَ الأبُ شكر الله خوري بمهمّةِ جمعِ المال.
وصلت تكلفةُ بناءِ المعبد وتشييدِ التمثال، قرابةَ خمسين ألفَ فرنكاً ذهبيّاً، جُمعت معظمُها من تبرعاتِ المؤمنين، ومن هبّةِ سيّدةٍ فرنسيةٍ تبرّعت بستةِ عشرةَ ألفَ فرنكاً، طلبت أن يبقى أسمُها مجهولاً. أمّا أرضُ المزار فقد قدّماها مناصفةً البطريرك الماروني والقاصدُ الرسولي.
ويُذكر أنّه تمَّ نقلُ رفاة المطران دوفال من بيروتَ إلى معبدةِ سيّدةِ لبنان عملاً بوصيّتِه. وحفظت رخامةٌ على الحائطِ الغربي للمعبدِ كُتبِ عليها باللاتينيّةِ تذكارُ الحدث، تقديراً لمحبّةِ دفال للعذراء وشغفِه بمزارِها في لبنان.
 

التدشين

لنصب تمثالٍ بهذا الحجم والنوع، كان لا بدَّ من الحصولِ على فرمانٍ، أي مرسوم سلطاني، يتضمّنُ موافقةَ السلطاتِ العثمانيّة –الحاكمةِ حينها- ، أرسلَ متصرّفُ لبنانَ مظفَّر باشا برقيّةً يطلبُ فيها موافقةَ اسطنبول على نصبِ التمثال، فكان الذهول، بل المعجزة، حين وصلَ الردُّ بالموافقةِ بعد خمسِ ساعاتٍ فقط.
في أوائل عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وثمانية أُنجزَ المعبدُ وقاعدةُ التمثال تحت إشراف الأب شكر الله خوري المكلّفِ رسميّاً من البطريرك. وبعد فترةٍ قصيرةٍ تمّ نصبُ تمثالِ إمِّنا العذراء، فكان التدشينُ في الثالث من أيار من العام عينه، الموافق الأحد الأوّل من الشهر.
وعند العاشرةِ صباحاً، بدأ المونسنيور جيانيني حفلَ التدشين بالصلوات، فبارك المعبدَ والتمثال، شاكراً اللهَ على إتمامِ هذا العمل الذي يُغذّي الإيمانَ المستقيمَ وينمّيه. وكان قد أطلعَ برسالةٍ قداسةَ البابا بيوس العاشر حول حفلِ التكريس، طالباً بركتَه الرسوليةِ لكلِّ من ساهمَ بإنجازِ هذا البناء، ولكلِّ من سيحضرُ التدشين.
حضرَ الحفلَ شخصيّاتٌ كبيرة، منها، بربر بَك الخازن أميرالاي الجند اللبناني ممثلاً يوسف فرنكو باشا متصرّفَ جبل لبنان، وسعادةُ حبيب بك البيطار قائُمقام قضاءِ كسروان، وجموعٌ غفيرةٌ من المؤمنين والزائرين، اكتظّت بهم الساحاتُ والأمكنةُ المجاورة.
 بعدَ حفلِ التدشين أحتفلَ البطريرك الحويّك بذبيحةِ القدّاسِ يعاونُه جمعٌ من الأساقفةِ ورؤساءٌ عامّون وممثلو جميعِ الرهبانيّاتِ الشرقيّةِ والغربيّة وكهنةٌ عديدون.
ألقى البطريرك خلالَ القدّاس عظةً بليغةً مشيداً محبّة اللبنانيّين وإكرامهم للعذراء، وطالباً حمايتها وشفاعتها التي لا تخيب.
وعند نهايةِ القدّاس ، طافَ البطريرك بزيّاحٍ مهيبٍ حول المعبدِ بأيقونةِ العذراء الفائقةِ القداسة، وأعلنَ الأحدَ الأوّل من شهرِ أيار عيداً سنويّاً لسيّدةِ لبنان.
 

مسؤولية خدمة المزار

بعد حفلِ التدشين والقدّاس سلّمَ البطريرك الماروني والقاصدُ الرسولي –بناءً على ما نصَّ عليه البندُ الرابعُ من صكِّ الاتّفاقيةِ السجّلةِ في بكركي بتاريخ الثامن عشر من كانون الثاني من عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعة- خدمةَ المزارِ وإدارتَه رسميّاً إلى جمعيّةِ المرسلين اللبنانيّين. تمّ ذلك التسليمُ في دار القصادةِ الرسوليّةِ في حريصا (السفارة البابوية)، إلى الأب يوسف مبارك الرئيسِ العام وقتئذٍ.
قامت الجمعيةُ تدريجياً بشراءِ عقاراتٍ جديدةٍ أنشأت عليها مرافقَ لخدمةِ المصلّين والزائرين، حتّى أوصلت المزارَ إلى ما هو علية، مزاراً يُقصدُ من جميعِ جهاتِ العالم.
 

مواصفات المزار

يتألَّفُ البناءُ من معبد يُكلِّلُه تمثالٌ كبيرٌ لمريمَ والدةِ الإله وسيدّةِ الحبل بلا دنس. صممَ هندسةَ المعبد -قبل نصبِ التمثالِ عليه- المهندسُ الفرنسي القديرُ جيّو (Gio)، وهو كنايةٌ عن كنيسةٍ صغيرةٍ بطولِ ثمانيةِ أمتار في مثلها عرضاً، تتسعُ لحوالى مائةٍ وخمسين شخصاً.
 يحتوي المعبد على مذبحٍ حجريٍ مربعِ الشكل، بقربِه تمثالُ العذراء أمِّ النور مصنوعٌ من خشبَ الأرز (وهو ذاتُ التمثالِ الذي طافَ لبنانَ بكلِّ مدنِه وقراهُ عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وأربعةٍ وخمسين). وعلى  بيتِ قربانٍ حُفرت عليه أرزةٌ يتوسُّطها صليبٌ فوقَ عناقيد عنب، في حين تزيَّنت زجاجيّاتُ الشبابيك برموزِ القربانِ المقدّس، كالعنبِ والسنابل.
أمّا تمثالُ سيّدةِ لبنان فقد صُنع في واحدٍ من معامل مدينةِ ليون الفرنسية، من مادّةِ البرونز المسكوب، تحت إشراف السيّد دوران (Durenne) الذي أوصلَه إلى مرفأ لبنان أواخرِ تموز عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وستة.
طولُه ثمانيةُ أمتار ونصف، قطرُه خمسةُ أمتار، ووزنُه خمسةُ عشرَ طنّاً؛ يتألّفُ من سبعِ قطع، طلي باللونِ الأبيض ليزدادَ تألّقاً وبهاءً.
بُنيت قاعدتُه على شكلِ جذعٍ مخروطي من الحجرِ الطبيعي، بعلوِ عشرين متراً. يبلغ محيطُه السفلي أربعةً وستين متراً، والعلوي إثنا عشرمتراً. ولبلوغ قمته، أي عند قدمي تمثالِ العذراء، بُني درجٌ لولبيٌ من مائةٍ وأربعِ درجات. (ولدينا رسمٌ للتمثالِ وقاعدتِه، محفوظٌ في البازيليك، بريشةِ الشهير داوود قرم).
 

البازيليك

مع ازديادِ اعدادِ المصلّين والزائرين لمزارِ سيّدةِ لبنان، خاصّةً في شهر أيار، عمدَ المسؤولون -بدءاً من عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وستةٍ وخمسين- على رفع خيمةٍ من البلاستيك والخشبِ في ساحةِ المزارِ من جهةِ مدخلِه الغربي لإقامةِ الاحتفالاتِ الدينيّة.
نتيجة لذاك الوضع، نشأت فكرةُ بناءِ كنيسةٍ كبيرةٍ تستوعبُ جموعَ المؤمنين الغفيرة، تجلّت معالمُها بمناسبةِ اليوبيل الذهبي للمزار.
تجسّدت تلك الفكرةُ بحفلِ وضعِ حجرِ أساسِ كنيسةِ كبيرة، أي بازيليك وذلك في الحادي والثلاثين من أيار من عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعين، على يدِ غبطةِ البطريرك الماروني مار بولس بطرس المعوشي. حضرَه فخامةُ رئيسِ الجمهورية الأستاذ شارل الحلو، ومعالي رئيس الوزراء الأستاذ رشيد كرامي، ومجموعةٌ من الزوراءِ والنواب، ولفيفٌ من أساقفةِ الطوائف الكاثوليكيّةِ والأرثوذكسية، وجمهورٌ كبيرٌ من المؤمنين.
منذ البداية، أوكلَ البطريرك المعوشي مسؤوليّةَ إدارة بناءِ البازيليك وتنفيذِه إلى جمعيةِ المرسلين اللبنانيّين الموارنة، بشحص رئيسِها العام الأب ساسين زيدان، على أن تعاونَه لجنةٌ تنفيذية، تمَّ تاليفُها أواخر عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وثمانيةٍ وستين، بعد لقاءٍ جرى بين البطريرك المعوشي والأبِ ساسين زيدان.
تألّفت اللجنةُ من الأب ساسين زيدان رئيساً، خلفَه الأبُ يوسف العنداري المرسل البناني عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وواحدٍ وسبعين، المهندس أديب صادر (أمينِ سرّ)، الصيدلي قيصر شلهوب، المهندس إميل قيصر (المديرِ العام لوزارةِ الأشغال)، الأساتذ جوزيف سلهب (المديرِ العام لوزارةِ السياحة)، المهندس فرانسوا الشمالي (رئيسِ بلديّةِ درعون- حريصا)، الأساتذ فؤاد بولس (رئيسِ مجلس إدارةِ تلفريك حرصا).
عملت تلك اللجنةُ على التمهيدِ اعلاميّاً ومالياً وهندسياً ولوجستيّاً تحضيراً لمباشرة البناء. وكانت قد وجّهت نداءً طلبت فيه من المهندسين الراغبين بتنفيذِ المشروعِ تقديم عروضِهم مرفقةً بالخرائطِ والتصاميم.
 

اختيار التصميم

ما أن قدّم المهندسون تصاميمَهم، شكّلَ البطريرك المعوشي والسفيرُ البابوي الفريدو برونييرا لجنةً تحكيميّة، لتختارَ تصميماً من بينِ التصاميمِ المقدّمة.
تكوّنت اللجنةُ بالإضافةِ إلى السفيرِ البابوي والأبِ ساسين زيدان ممثلاً البطريرك المعوشي، من خمسةِ مهندسين مشهورين، جورج مارون نقيبِ المهندسين، هنري إدّه نقيبِ المهندسين سابقاً، متري النمّار رئيسِ التنظيمِ المدني، ومهندسين فرنسييّن شهيرين.
وبعد مباحثاتٍ، أُبعد تصميمان من بين التصاميم الأربعِ المقدّمة، فحُصرَ الاختيارُ ما بين تصميمٍ لمكتبِ المهندس خوسي الحسيني، وآخر لمكتبِ المهندس بيار الخوري. أجرت اللجنةُ مشاوراتٍ حثيثةٍ ومن ثُمَّ اقتراعٍ سرّي، لاختيار واحدٍ من التصميمين، ففازَ الأخيرُ بأربعةِ أصواتٍ مقابلَ ثلاثةٍ لمنافسه.
 

أعمال البناء

بوشر العملُ بتنفيذِ المشروع من دون توقّفٍ حتى في أصعبِ الظروف. كمرحلةٍ أولى تمّ تمهيدُ الأرضِ التي سيرتفعُ عليها البناء، فثانية في حزيران عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وواحدٍ وسبعين، وضعت فيها الأساساتُ وبُنيت الجدرانُ كما مدّت الساحةُ الكبرى، ثُمّ تلتها الأعمالُ تباعاً.
نفّذ المهندسُ لويس قرداحي جزءاً من البناء، أمّا الجزءُ الأكبر، فيعودُ تنفيذُه إلى المهندس معين عون وفريقِ عملِه الذي تغلّبَ –متسلّحاً بإيمانه وبثقة الأب بولس نجم رئيس عام المرسلين وعناده- على عقدةِ رفعِ سقفٍ عالٍ على هيئةِ سفينةٍ فينقيّةٍ ذاتِ أشرعةٍ مكوّنةٍ من أضلعَ منحنيةٍ طولُ أعلاها أربعةٌ وستون متراً؛ ولإنجازِ عملٍ كهذا، استعانَ المهندسُ بخبرةِ شركتين فرنسيتين، أشرفت الأولى على تركيب سقالةِ البناء، والثانية رافقت تصميمَ الواجهةِ الزجاجيّةِ الأماميةِ الضخمةِ وتركيبَها.
 

مواصفات البازيليك

استوحى المهندسُ تصميمَه من شكلِ الأرزةِ اللبنانيةِ والسفينةِ الفينيفية.
يبلغُ طولُ البازيليك مائةً وخمسَ عشرةَ متراً، و وسبعةٌ وستين متراً كاوسعِ مسافةٍ عرضاً. أمّا السطحُ فيتكون من مائةٍ وأربعةٍ وعشرين ضلعاً من كلِّ جهة، أعلاها طولُه تسعةٌ وأربعين متراً. امّا ارتفاعُ قبّةِ البازيليك فيبلغ اثنان وستون مترأ.
تستوعبُ البازيليك جلوساً نحو ثلاثةَ آلافٍ وخمسُ ماية شخصاً، بإمكانِهم مشاهدةُ تمثالِ سيدةِ لبنان عبر الواجهةِ الزجاجيةِ الأماميةِ التي يبلغُ ارتفاعُها اثنين وأربعين متراً، وعشرين متراً عرضاً.
نرى داخل البازيليك مذبحاً من الغرانيت بطولِ خمسةِ أمتار تقريباً، كما نشاهد صليباُ صنع من قساطل الستانلس يصلُ ارتفاعُه إلى حوالى خمسةِ أمتارٍ وثمانين سنتيمتراً، ثُبِّت على قواعدَ ذهبيّة، وهناك أيضاً بيتُ القربانِ صُنع في إيطاليا، نُحت عليه صليبٌ صغيرٌ وحمامةٌ ترمزٌ إلى الروح القدس، إضافةً إلى سنابلَ قمحٍ وعناقيدَ عنب.
 

كنيسة سيّدة لورد

في أثناء بناء البازيليك، شُيّدت تحت قسمَه الأمامي كنيسةٌ دعيت Crypte، ثم سمّيت كنيسةُ سيّدةِ لورد، لأنّها حوت بين ثنايها تمثالاً سيّدةِ لورد، كان قد قدّمه قداسةُ البابا يوحنّا بولس الثاني هديّةً إلى المزار في الحادي والعشرين من آذار عام ألفٍ وتسعُمايةٍ واثنان وتسعين، رمزاً للتضامنِ بين الشرقِ والغربِ تحت جناحِ مريمَ العذراء.
تتسع هذه الكنيسة لحوالى ثلاثمائةِ شخصٍ جلوساً.
فهي ذاتُ شكلٍ دائريٍ يساعدُ على الصلاةِ والخشوع. عن يمينِ مذبحِها  صورةُ العائلةِ المقدّسة، وعن شمالهِ تمثالُ سيّدةِ لورد، زجاجياتُها غايةٌ في الروعةِ، رسمت عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وستةٍ وتسعين، ويُلاحظُ صورُ الرسلِ الاثني عشرَ موزّعةٌ بإتقانٍ على بوابتي المدخلِ الحديدي.
 

أهمّ إنجازات جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة

منذ وضعِ حجرِ أساس البازيليك حتّى تدشينِها، كان الاهتمامُ منصبّاً على إنجازِ هذا المشروعِ الضخم. لكن مع حلول عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وخمسةٍ وتسعين، بدأت الاهتماماتُ تتجهُ صوبَ تنفيذِ مشاريعَ خدميةٍ وحيوية، تخدمُ الزوارَ وتساعدُهم على الصلاةِ والتامّل.
1-كنيسة الغفران: دُشنت في عيد مار أنطونيوس الكبير الموافق في السابع عشر من كانون الثاني من عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعةٍ وتسعين. اسمُها يدّلُ عليها، إنّها مخصّصةٌ لاستقبالِ التائبين كي يجدّدوا إيمانَهم، كما تستعملُ لإحياءِ الاحتفلاتِ الدينيةِ كالقداديس والأكاليل والعمادات. وهي أيضاً بيتُ صلاةٍ وتأمّلٍ للرياضاتِ الروحيّةِ الجماعيةِ المختصرة. نجد فيها إيقونةَ الراعي الصالح، حيث المسيحُ يحملُ الخروفَ الضالَ على منكبيه.
2- بناء مركزين، الأوّل يحتوي على مسكنٍ للكهنة، وعلى مكاتبَ لهم يُديرون منها شؤونَ المزارِ ويعرّفون من يطلب ويرشدون روحيّاً وإنسانياً من يبتغي.
والمركز الثاني لسكنِ الراهبات والموظّفات، الهدفُ منه تسهيلَ إدارةِ المزار وتفعيلَ أعمالِ الرسالة الروحيّة.
3- إنهاءُ تبليطِ البازيليك بالرخام والغرانيت؛ تحسينُ الصوتِ في البازيليك، وذلك من خلال وضعِ أجهزةٍ لتخفيفِ الصدى، ومكبّراتٍ صوتيةٍ تتناسبُ وحجمِها؛ إتمامُ الديكور، ووضعُ خطّةِ صيانةٍ مستديمة. تركيبُ جرسٍ جديدٍ على قبّةِ البازيليك. تبليطُ ساحةِ المعبد بالصخرِ الطبيعي؛ افتتاحُ قاعةٍ رسميةٍ كبيرةٍ ومكاتبَ إدارةٍ وخدمةٍ جديدة. نسخُ كافةِ ملفّاتِ العمادات والأكاليل القديمةِ والجديدةِ وحفظُها على برامجَ كومبيوتر متطوّرةٍ بغية الحصولِ عليها بسرعةٍ عند الطلب. تحسينُ العملِ في محلِ التذكاراتِ والسكرتاريا وتحديثِه؛ وضعُ شاشةٍ ألكترونيّةٍ فوقَ مركزِ التذكارات لتسهيلِ استعلاماتِ الزوار، ولنقلِ بعضِ الاحتفالاتِ الدينيةِ مباشرة. إنشاءُ مركزِ "النور والفرح" للرياضاتِ الروحيةِ والمؤتمراتِ المحلّيةِ والدولية. إنشاءُ مركز "بيت عنيا" للراضياتِ الروحيةِ والإسترشادِ الروحي، ونُزلٍ للغرباء الذين يودّونَ السكن بين أحضانِ سيّدةِ لبنان.

 

أهم الاحتفالات

نظراً إلى موقعِ البازيليك الروحي، وما يرمزُ إليه وطنيّاً، وسعةِ استعابِه للمصلّين، بدأت منذ عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وواحدٍ وتسعين الاحتفالاتُ الدينيةُ الكبرى تتوالى، فكان من أهمّها:
توقيعُ قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني الإرشادَ الرسولي هناك، ولقاؤه الشبيبةَ أملَ لبنانَ ومستقبلَه. وكان ذلك في العاشر من أيار عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وسبعةٍ وتسعين.
استقبالُ ذخائر القدّيسةِ تريزا الطفل يسوع ليلَ التاسع عشر- العشرين من شهر تشرن الأوّل عام الفين واثنين، ثمّ عادت في يوم السبت الواقع في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام عينه.
حفلٌ بالذبيحةِ الإلهيّة يترأسُه غبطةُ البطريرك الماروني في الأحدِ الأوّل من شهر أيار من كلِّ عام. وسيادُة السفير البابوي في الأحدِ الأخير منه.
حفلُ سيامةِ أربعةٍ وأربعين كاهناُ مارونيّاً من جميعِ الأبرشيّاتِ والرهبانيّاتِ وجمعيّةِ المرسلين اللبنانيّين، يوم السبت الموافق الثاني والعشرين من تموز عام ألفٍ وتسعُمايةٍ وخمسةٍ وتسعين.
وفي عيدِ العنصرة من كلِّ عام تحتفلُ في البازيليك إذاعةُ صوتِ المحبّة بمناسبةِ عيدِها السنوي، وكذلك تليفزيون تيلي لوميار. بالإضافة إلى تجديدِ قسمِ السنوي للعديدِ من الأخويّات والحركات الرسوليّة، إقامةِ القداديس والأكاليل والعمادات والكثيرِ من الحفلاتِ الدينيّة والموسيقيّة وسواها.
 

خاتمة

أينما ذهبَ الإنسانُ فلا بدَّ له أن يعودَ إلى قلبِ مريمَ الحنون، الذي يحملُ الإنسانَ بشفاعتِه إلى قلبِ يسوع، وهكذا غدا مزارُ سيّدةِ لبنان،غدا قلبُ لبنان، قلبُ مريمُ ملجأَ كلِّ لبنانيٍ في المخاطرِ والمحن، ومعزّيَ كلِّ قلبٍ كسير، ومنعشَ كلِّ روحٍ ضعيف. إنّه بيتُ كلِّ مؤمنٍ، وراحةُ كلِّ متعبٍ، إنّه صلةُ الوصلِ بين الإرضِ والسماء بين الإنسانِ والإله.